default | grid-3 | grid-2

Post per Page

ما رأيته ناقصاً وأنا ذاهبٌ إلى كمالي




 الشَّجَرُ العَالي الَّذي أتَوَهَّمهُ في رُوحِي، الذي يُنْبِتُ ويُهْدِرُ الضَّوْءَ والمَاءَ مُنْذُ خمسينَ عاماً، لم يَعُدْ يُقْنِعُنِي كثيْراً، وأنا أَحْيَا هَكَذَا لِأجْلِ ثَمَراتٍ تَسْقُطُ مِنْهُ مُصَادَفةً، وهو يَصْعَدُ لأعَلى بِفُرُوْعِهِ الزَّائِلةِ

لِمَاذَا أُكْثِرُ مِنْ الْمَوْتِ؟

لِمَاذَا أَسْتَحِقُّهُ ولا أَسْتَحِقُّ حَيَاتِي؟

هل قُلْتُ حَيَاتي؟ أَلستُ مُتواطِئاً؟ أَليْستْ الشَّجَرةُ الواقفةُ بي مَيِّتةً، والنُّقْصَان في اِسمِي، وأنا أصرُخُ: عَيْبٌ أن يُؤْخَذَ مِثْلي بعِقَابٍ مِثْلَ هَذَا، يُلْقى في كَمَالِهِ دَونَ أنْ يَجِدَ تَمَاماً وَاحِداً

أُعَاتِبُ نَفْسِيَ: كَيفَ تَتَوقَّعُ فِيكَ كَمَالاً، وأنتَ تملأُ الزُّجَاجَاتِ الفَارِغَةَ بأَحْزَنِ أُغْنِيَةٍ لمُطْرِبٍ مَيِّتٍ، ومُلَحِّنٍ مَيِّتٍ، وَفِرْقَةٍ مَاسيةٍ مَيِّتةٍ، وأنتَ تُرَاقِبُ العَازِفِينَ وتُخَمِّنُ مَنْ تَبَقَّى مِنْ سُلاَلَتِهم


الْمَوْتُ الَّذي لا تعرِفُونَه يعِد نَفْسَهُ بإفْطَارٍ شهي، كأنْ يُجَهِّز قطعتيّ توست، ومُكَعَّب زُبْدَة، وطبَقَ أُومليت، ثمَ يَطْبَعُ قُبْلَةً على خَدّي امرأةٍ يظنُّ أنها نيكول كيدمان، وخفيفاً يخرجُ إلى التاكسي، يَنْتَقِي السائقينَ حَسْبَ شَرطينِ: الرائحةِ والصمتِ، وفي الطريقِ يتأمَّلُ الناسَ، يَحسبُهم خُضْرَاوات، ويُخَمَّنُ ما نَضَجَ منها، ويُصَلِّي في سِرِّهِ: أَيُّها الْمَوْتُ، كَمْ أَنْتَ طباخٌ مَاهِرٌ، يَكْفي أنكَ لمْ تُغْلِق مزارعَكَ، ولم يَلْحَقْ بكَ التعبُ، تركتَ لنا الأفرانَ مَفْتوحةً لنشاهدَ باكينَ كيفَ تُجَهِّزُ الوجْباتِ، ثم قلتَ: رائعٌ أنْ تتوقعوا لا أنْ تنالوا


أعترفُ
على يَدِي جَرَائِمي كُلُّها التي دمرتُ بها نفْسي، ولستُ خائفاً من شيءٍ، والْوُحُوشُ التي تطاردُني في النومِ تعرفُ أنه ليس لديَّ ما أخسَرُه، وحدثَ أكثرُ من مرَّةٍ أنْ أصْبَحْنا أصدقاءً، حتَّى إنَّ وَحْشاً بعينٍ واحدةٍ اسْتَيْقظَ يوماً معي، فأعددتُ لَه الطَّعامَ، وأسْمَعْتَه مقطَعاً طَويلاً من موسيقى الجَاز، ثُمَّ نَزلتُ به من البيتِ لأُعذِّبَ به الجميلاتِ في المراكزِ التجاريةِ، ليَعْرِفْنَ أنَّه بمقدوري أن أروَّضَ وُحُوشَهنَّ السِّرية، وأنْ أجعلَهنَّ فَرِحاتٍ أكثرَ بما يخجَلنَ منه


أُحبُّ الوُحُوشَ وأصنَعُها بلُطْفٍ كلَّما عرفتُ امرأةً جديدةً، ليس هناكَ أجملُ من أنْ أكونَ قاتِلاً بشَفَتَيْنِ مُدَببتينِ، والدماءُ تُغِطِي لِساني، وفي عَيْنيَّ تركضُ العارياتُ وسطَ مدينةٍ مُهَدَّمةٍ، لحْظتَها تسألُني المرأةُ: لا تقْتُلني قبلَ أنْ أذوقَ شهوتكَ، ولحظتها أبتسمُ مثل ذئبٍ عَجوزٍ لَمْ يَعُدْ يَحلَمُ إلا بالفرَائِسِ السهلةِ

لا أُريدُ أن أكَوْنَ خَالِداً، لا أًريدُ أن أكونَ خَزَانَةَ عِزْرَائِيلَ، فقط أريدُ مِنْ أصدقائي أن يُسَاعِدُونِي قليلاً، ألَّا يَتَوَهَمُوا مِثلي الخُلودَ بقبلةٍ على الرقبةِ، وألًّا يَحلُمُوا بِقُدُراتٍ خارقةٍ، كأنْ يلْمَسُوا الطَّاولاتِ فتطيرُ بِهم، وتُصبحُ المقاهِيْ والبَاراتُ خارجَ الجاذبيةِ


 أنا أُحِبُّ الجاذبيةَ حين تُجْبِرُني على السُّقُوطِ، أُحبُّ صديقَتي حِينَ تُجْبِرُني على الرَّقصِ والغِناءِ، أُحبُّ ألًّا أُتْرَكَ لِنَفْسي وحيداً أمام مقاعِدَ شاغِرةٍ تُسْحَبُ فجأةً بزاويةٍ مَائلةٍ، فأظنُّ أن أشباحِي سقطتْ تحْتَ الطاولةِ، وطالما نظرتُ أسفلَ الطاولاتِ آخرَ الليلِ، فَلمْ أجدْ شَيْئاً


أعترفُ ثانيةً
أحبُّ امرأةً اسمها "جميلة".. ستكونُ حرةً لو أنني مِتُّ. أُعذِّبُها بالصَّمْتِ كما تُعذِّبني بالصمتِ. أُرسلُ وُحُوشِي خَلْفَها، تاركاً أنْ تُخِيفَها كما تشاء، وأحلُمُ لو أنَّها تركتْ رسالةً بكلمتينِ: "وَدَاْعاً.. أكرَهُكَ"، لكنني أحبُها، وأخافُ أن تكرهَني، هي آخِرُ تأديبٍ لي يومَ نزلَ القَدَرُ إليها من الجبالِ في عربةٍ سوداءَ، لمْ يضعْ في أذنيها قِرطاً ذهبياً على هيئةِ وردةٍ أو فراشةٍ، بل زَوَّجَهَا لرجلٍ لم يكنْ ليموتَ حُزناً لو تزوجَ غيرَها


  لماذا يأتي كلُ شيءٍ ناقصاً ومتأخِراً؟
في البيتِ الذي أستأجرُه منذُ ثلاثِ سنواتٍ، سألتُ أبي في موتهِ فقالَ: بالتجربةِ والوقتِ يتحايلُ القرويونَ على البقاءِ، وتَخِفُّ نسبةُ السذاجةِ على الأرضِ، وتُصبحُ غابةً


الْمَوْتُ الذي لا تعْرِفونَه اقتربَ من الخمسين، وهو يتقدمُني إلى الشارعِ، والمكتبِ، والبارِ، وحينَ يعودُ بي إلى البيتِ، أتركُ له السريرَ، متوهماً ملائكةً للكنبةِ الصفراءَ تلَمسُ أصابِعَ قدميّ. في المرةِ الأُولى قفزتُ فزعاً، وبقيتُ لياليَ طويلةَ لا أخلعُ جواربي، ثم فَكرْتُ في الملائكةِ، ولم أشَأْ أن أكونَ نذلاً مع طَيْبِينَ بأجنحةٍ بيضاءَ يريدونَ حِرَاسَتي، لذا، وبقدمينِ حافيتينِ، أُطفيء الضوءَ كلَ ليلةٍ، وأُجهِزُ رَعْشَتي بِخَوْفٍ أقلَ. وفي كثيرٍ مِن الأوقاتِ أستدِعي حبيبتي لتنامَ بِجِوارِي بعينيها الواسِعَتَين، ثم أُغرِيها بسؤالٍ: هل تُريدين أن تُشاهِدي الملائكةَ؟


فَعَلْتُ الشيءَ نفْسَه كثيراً، كُلُ الَّلاتِي عَرِفتُهُنَّ تَعلَّمْنَّ الحيلةَ ذاتَها، ورُبَّما لذلكَ لم تَدُمْ منهنَّ واحدةٌ، وخَرَجْنَ من حَيَاتي بِقصصٍ غالباً ما يَروِيْنَها لعُشَّاقٍ جُدُدٍ عن رَجلٍ مَجْنُونٍ وَعَدَهُنَّ بالملائكةِ في أصابعَ قَدَميْه


أحبُّ عادةً أن أتركَ للنساءِ ذكرياتٍ غريبة، أتخيلُهُنَّ في الثمانينَ مِن العُمرِ، جالساتٍ في شُرُفَاتٍ أو حدائقَ صغيرةٍ، وعلى وُجُوهِهِنَّ أثرٌ عميقٌ لما أفسدَه الأزواجُ من الينابيعِ. أتخيلُهنَّ بيضاواتٍ ببشراتٍ مغطاةٍ بالنمشِ، أو سمراواتٍ بِتَجَاعِيدَ داكنةٍ تَحْتَ العينينِ، ويجبُ أن تكونَ لهنَّ جَميعاً رعشةً خفيفةً في اليدينِ، وهنَّ شارداتٌ في ماضِيهنَّ السريِّ أمامَ أكوابِ الشَّاي، مع قليلٍ من الحَسْرةِ على ما لم يفعَلْنَه بجنونٍ مقابلَ جنوني. قليلٌ من الحسرةِ في قلوب حبيباتي العجائز سيقنعنُي أنني لم آتِ إليهنَّ عَبَثاً، وأنني أنقذتُ من الموتِ الذي أتحدثُ عنه كثيراً من الحياة


أخافُ مِني، أخافُ من الوحشِ الذي تلمسُ الملائكةُ قدمَيه، أخافُ من الحجرِ الذي لم أضربْ به أحداً حتى الآن، حملتُه مِنْ حَيْاةٍ إلى حَيْاةٍ، أخفيتُه في ثيابِي، وحَفِظْتُه لأقتُلَ به كَمَالي حينَ أراه. خَمْسُونَ عَاماً في مَكَانهِ، رَعَيته فكَبُر مثلي، وصَار جبلاً لا يعرِفُ أباً سواي، لكنني لم أَعُدْ قادراً أن أُلوِّحَ به، أَدُور حولَه كلَ صباحٍ باكياً، وفي الليلِ أنامُ بجواره لأُغَيِّرَ بإصبِعي مواضعَ النُّجومِ، دونَ أنْ أستطيعَ احتمال قَمرٍ وَاحِدٍ في سريري


 خَمسونَ عاماً وأنا ناقصٌ
 أُخفضُ جناحيّ
 وأبكي حين يترُكُني أصدقائي آخرَ الليلِ


تَعَلَّمْتُ ألا أُفَرِّطَ في الأنْذَالِ مِنْ الأَصْدِقاءِ والحَبيباتِ، تَعَلَّمْتُ أَنْ أَرَاهم مَوْتَى لأغْفِرَ لهم، وأسألُ اللّهَ لهم ولو غُرَفاً صغيرةً في الجَنَّةِ، تَعَلَّمْتُ الخيرَ من شرورِنا معاً، وخسرتُ الكثيرينَ حتى وصلتْ الملائكةُ أصابعَ قدميّ، والآنُ إذا مَشيتُ، إذا تكلمتُ، لا يراني الناسُ، لذا صرتُ حراً، ليستْ هناكَ أسئلةٌ لأقفَ وأجيبُها، ليستْ هناكَ مُؤَامَرَةٌ ليقدّروا وجودي، أنا هكذا عابرٌ وبسيطٌ، رجلٌ قدماه جناحان، وليس عليه أن يبررَ طَيَرَانَهُ لِأَحَدٍ


ما مِنْ أحدٍ يستطيعُ أن يَحْفُرَ روحي كما أحفرُها، وما مِنْ أحدٍ يجهلُ روحِي كما أجهلُها، طبقاتٌ كثيرةٌ مررتُ بها وأنا ذاهبٌ إلى كمالي، كلما حفرتُ عميقاً خرجتْ "البندارُ"* وتكلمتْ، حتى أن الأسماءَ تشابهتْ، والكلامُ تشابه، والموتى تشابهوا، وظننتُ أنني أحفرُ روحاً غير روحي، لكنني كنتُ أتبعُ إشاراتٍ، شيءٌ من نفسي يقودني، ويجهزُ لي الفؤوسَ، ويدلُني بالغريزةِ إلى طبقاتٍ جديدةٍ، فإذا ضربتُ الفأسَ فتحتُ قبرَ ميتٍ، فينهضُ ويلقي عليّ السلام، ثم تكاثَرُوا، وتعارفُوا، وأقاموا الحفلاتِ، ولم يَكُنْ لديَّ وقتٌ لأنظرَ وأرحبَ بهم، كنتُ أسمع همهماتٍ فأواصلُ الحَفْرَ، وأسألُ: كيف امتلأتُ بقريةٍ كاملةٍ من الموتى؟


في كُلِ حُفْرَةٍ كانتْ "البندار" تمشي إلى النهرِ، وليسَ من نهرٍ، ليسَ من طيورٍ خضراءَ فوق رأسِها، وليسَ مِنْ بيوتٍ وأبقارٍ أو نخيلٍ. أسألُها: إلى أينَ؟ فتشيرُ بكتاب الوعودِ، وبعصا من صفصافها تهشُ على موتاها، فأقولُ: القُرى تموتُ وتبْعثُ ساذجةً


في كل حُفْرَةٍ رأيتُ النعيمَ

 وهربتُ من حُرَّاسِ جهنَّمَ
 عبرتُ بيوتَ ذئابٍ تُرضِعُ صِغارَها

ما زلتُ أحْفُرُ رُوحي، ولم أصلْ آخرَها، أستخرجُ الجثثَ وأرى كيفَ يَعودُ أصحابُها ويَمْرَحُونَ، أنبشُ القبورَ وأتعرَّفُ على موتى نسيتُ أسماءَهم ولم أنسَ وجوهَهَم تحت غُبَارٍ خَفيفٍ كانَ يسبقُ ظهورَ أبي بأكياس المُوزِ والبُرتقالِ. أَبِي الذي أجَّلَ مَوْتَه شُهُوْرَاً لأقفَ عَلى رأسِهِ، رُبَّما ليُوصِينِي ألَّا أثقُ بالنَّحلِ والعسلِ، وأن أخْتَارَ له حُفْرَةً بطابقينِ في رُوحِي


كانَ أبِي يُكَلَّمُ النَّحلَ لا الغنمَ، لِذَا فَاتَهُ الحَظُّ أنْ يكونَ نَبِيّاً، لم تكنْ الكلابُ الغريبةِ تَنْبَحُ خَلْفَهُ، وحينَ ظنَّهُ الناسُ وَلِيّاً، كَذَّبَهم بشربِ الخمرِ والحَشِيشِ، ولما نسوا أَمْرَهُ مَعَ النَّحْلِ والكِلَابِ، أَقْلَعَ عن الخَمْرِ والحَشِيشِ، ولم تَفُتْه صلاةً، وحينَ هَجَرْتُه كانَ طيباً وقالَ: اِذْهَبْ، ولا تتركْ لنا منكَ صَوْتاً أو عَيْناً أو رَائِحةً


الموتُ الذي لا تَعْرٍفونَه يَستيقِظُ في العَاشِرةِ صَبَاحاً نِصفَ نائمٍ، ولا يُطِيقُ أن يقولَ له أحدٌ: صباحُ الخيرِ، حتى لو كانتْ صغيرة وشقراءَ، ثم يُدَخَّنُ سيجارةً على الرِّيقِ، ويستَحِمُّ بِصابونٍ مُعَطَّرٍ، ويختارُ رائِحَتَه ما بين "شانيل بلو" وجيفينشي بلو ليبل


جميلٌ للموتَى أنْ يَغْسِلوا نهايتَهم من القُرى
بشيءٍ من المُدنِ
أن يدفَعُوا الترابَ
بخُلاصَاتِ الوردِ والتوابِلِ





................................
هامش
   البندار: قرية الكاتب *

ليست هناك تعليقات



www.4kamal.com

استقبل جديد تأويل على بريدك الإليكتروني




Error Page Image

Error Page Image

Oooops.... Could not find it!!!

The page you were looking for, could not be found. You may have typed the address incorrectly or you may have used an outdated link.

Go to Homepage